الإلياذة...
تمتع الشاعر اليوناني هوميروس بالحرية التي مكنته من التفكير والكتابة، فقدم للأدب هذه الملحمة الخالدة "الإلياذة"، ثم تبعها بأختها "الأوديسا"، فعمَّا تدور أولاهما؟ وما المغزى من ورائها؟
من الصعب البت بإجابة واحدة عن هذا السؤال، ذلك لأن كل قارئ للإلياذة يمكنه أن يفهمها بطريقة مختلفة عن الآخر، لذا، دعونا أولا نسرد ما جاء فيها ثم نتشارك معاً الحكمة ونتجادل في المغزى.
من المعروف أن اليونانيين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة والإلهات، فكانوا يتخيلون للشمس إله وللبحر إله وللحب والجمال إلهة وللجاه والسلطان إلهة، وهكذا في أعداد لا تحصى.
وكانوا يؤمنون بأن لهذه الآلهة والإلهات الكثيرة كبيرا يسمونه كبير الآلهة ورب الأرباب، وكانوا يعتبرون زيوس إله السماء والبرق والرعد هو كبيرهم الذي يأمرهم ويأمرهن فيطيعون.
وكانوا يتصورن مجمع الآلهة والإلهات هذا فوق قمة جبل الأوليمبوس، وأن البشر يعيشون على الأرض التي تقع أسفل هذا الجبل. ويتصورون أن الألهة والإلهات يتسامرون ويتجادلون ويتنافسون وقد يختلفون ويتصارعون ثم يفصل بينهم زيوس فيوقف كل منهم عند حده ومن ثم يتوقف صراعهم الذي تصل الأرض بعض شظاياه.
هنا، تصور الشاعر اليوناني الأعمى هوميروس الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد على وجه التقريب ملحمته وصاغها صياغة شعرية جمعت بين جمال النص وروعة السرد وعمق المعنى ما منحها صفةالنص الأدبي الخالد، وللدرجة التي جادل الباحثون فيما إن كان كتبها فرد واحد أو أن يد الأدباء على مر العصور قد مرت عليها بالإضافة والتجويد والإتقان حتى استقرت على ما هي عليه.
المهم، أن هوميروس تصور حفلا صاخبا في بيت كبير الآلهة زيوس، تجتمع فيه كل الآلهة والإلهات، يأكلون ويشربون ويرقصون طوال الليل حتى الصباح، ويتصور أن الكل كان مدعوا للحفل ما عدا إلهة النكد والهم والغم والشقاق أريس، فحنقت لذلك حنقاً شديدا وقررت وهي بعيدة عنهم إفساد حفلهم بجعل الشقاق والخلاف يدب بينهم، تشفياً فيهم، وانتقاماً لعدم دعوتها، ففكرت وفكرت، ثم اهتدت إلى تلك الحيلة، ومن هنا يبدأ جوهر الصراع وذروة العقدة في الملحمة الهوميرية.
صنعت إلهة الشقاق والنكد تفاحة ذهبية وكتبت عليها كلمة للأجمل، ثم تسللت دون أن يشعر الجميع وألقتها بينهم وهم يتراقصون ثم انصرفت من حيث أتت.
فوجئت الإلهات بالتفاحة، وكن ثلاثة؛ أفروديت إلهة الحب والجمال، وأثينا إلهة العقل والحكمة، وهيرا إلهة الجاه والسلطان. فثار بينهن جدل وأي جدل، كل واحدة منهن تريد التفاحة لنفسها لتثبت للأخريات أنها الأجمل كما كُتب عليها، وحينما دب الشقاق بينهن احتكمن إلى كبير الآلهة زوج هيرا الإله زيوس، فاحتار في هذه الورطة، إنه لايريد أن يحكم بالتفاحة لإحداهن فيغضب الأخريات، فأجَّل الحكم لنهاية السهرة حتى لا يفسد الحفل، واستمروا في الأكل والشرب والرقص حتى قبيل الصبح ثم وقف يعلن حكمه الذي قضى فيه بأن ينزل إله الريح بالتفاحة ويلقها أمام أول واحد من البشر يصحو من نومه فكان هو باريس ابن ملك طرواده.
فتفاجئ باريس بالتفاحة، وقرأ ما عليها "للأجمل" وتفكر من ياترى هذه الأجمل، وتراءت إلى مخيلته أو ألقي في روعه أنها قد تكون أثينا إلهة الحكمة أو أفروديت إلهة الجمال أو هيرا إلهة الجاه، وبينا هو في صراعه الداخلي احتالت أفروديت لتفوز بالتفاحة، ودخلت إليه من باب الفتنة والغواية، كاشفة عن مفاتنها بعد أن تجسدت في صورة هيلينا زوجة ملك أسبرطة، موحية إليه أنها حبيبته وأنها بانتظاره، وأن ما عليه سوى التحجج بأي حجة لزيارة زوجها في قصره ثم الاختلاء بها والاتفاق معها على الهرب لينعم الحبيبان بحبهما، وأقنعته أنها ستبقي محبته في قلبها، وأن العدل يقتضي أن يفوز العشيقان ببعضهما. وقد حاولت أثينا إلهة العقل والحكمة إثنائه عن هذه المخاطرة، محذرة من عواقب خداع ملك وخطف زوجته تحت تأثير الحب والرغبة والشهوة والهيام، لكنه لم يستمع لنصحها، وسار وراء رغبته ونفذ خطته، وذهب إلى قصر ملك أسبرطة مدعيا أنه موفد من والده ملك طرواده لتقديم الشكر على حُسن التعاون بين المملكتين.
وصل باريس، ولقي الترحيب، وبينا هو جالس جاء لملك أسبرطة رسالة من أخيه ملك أجاممنون يطلب فيه مقابلته لأمر هام، فاستأذن موصياً باريس بأن يأخذ راحته وبأن يعتبر القصر قصره وأهله بمثابة أسرته، فخلى له الجو، وذهب يبحث عن هيلينا، زوجة الملك، وبثها عشقه وغرامه، وهرب الإثنان معاً، فكانت الفاجعة، وارتجت الممالك كلها بالصدمة، من هول ما جرى، واعتبر الجميع ما حدث غدر وخيانة، وانتهاك لحرمة ملك أسبرطة وأخيه ملك أجاممنون، وقرر الإثنان الانتقام لشرفهما، وشن الحرب على طرواده وضمها لمملكة أسبرطة.
وهنا تنتهي الألياذة لتبدأ الأوديسا التي تصور وقائع تلك الحرب ونتائجها.
هذه إذن هي الألياذة لهوميروس، وتلك هي قصتها.
والآن نعود لما بدأنا به: ما هو المغزى من الملحمة؟ ماذا يريد الشاعر أن يقول؟
هنا تختلف القراءات بحسب زاوية النظر، وبالنسبة لي فإني أراه قد حاول طرح موضوع الحرية التي أراد الله خلق الإنسان عليها؛ إنسان له حرية الاختيار بين طرق متعددة، لكل منها جاذبيته، وأن عليه أن يقرر ماذا يريد، ثم عليه تحمل نتيجة قراره وتبعات اختياره. هل يختار العقل والحكمة فيسمو ويتجنب المزالق، أم يختار الحب والجمال والمتعة والجنس والسير وراء رغباته ونزواته فيعب منها عباً غير عابئ بعد ذلك بالتبعات، أم تراه يميل نحو الجاه والمنصب والمال فيستعمل ذلك كله في الهيمنة وبسط النفوذ وفرض الإرادة.
في ظني، أن هوميروس أراد بملحمته طرح هذه الإشكالية الأزلية، وما يعزز هذا الظن أن مصدر هذه الحيرة الإنسانية كما سرد الشاعر هم الآلهة والإلهات أنفسهم والذين بحكم طبيعتهم وبقدراتهم أقوى من البشر، وتلكم في النهاية كانت مشيئة كبيرهم زيوس، رب الأرباب، صاحب فكرة إلقاء التفاحة المكتوب عليها "للأجمل" على الأرض وتصدير تلك المشكلة المحيرة إلى البشر.
عموما، ما من أسطورة إلا وفي طياتها فكرة، ولولا قابليتها للحياة ما عاشت، تثير الفكر وتلهب الخيال.
* للاستماع إلى الإلياذة بأصوات مجموعة من الممثلين البارعين الذين أدوها لصالح الإذاعة المصرية يمكنكم ذلك عبر الرابط أدناه.
https://youtu.be/MSWx8NMDbVw
تمتع الشاعر اليوناني هوميروس بالحرية التي مكنته من التفكير والكتابة، فقدم للأدب هذه الملحمة الخالدة "الإلياذة"، ثم تبعها بأختها "الأوديسا"، فعمَّا تدور أولاهما؟ وما المغزى من ورائها؟
من الصعب البت بإجابة واحدة عن هذا السؤال، ذلك لأن كل قارئ للإلياذة يمكنه أن يفهمها بطريقة مختلفة عن الآخر، لذا، دعونا أولا نسرد ما جاء فيها ثم نتشارك معاً الحكمة ونتجادل في المغزى.
من المعروف أن اليونانيين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة والإلهات، فكانوا يتخيلون للشمس إله وللبحر إله وللحب والجمال إلهة وللجاه والسلطان إلهة، وهكذا في أعداد لا تحصى.
وكانوا يؤمنون بأن لهذه الآلهة والإلهات الكثيرة كبيرا يسمونه كبير الآلهة ورب الأرباب، وكانوا يعتبرون زيوس إله السماء والبرق والرعد هو كبيرهم الذي يأمرهم ويأمرهن فيطيعون.
وكانوا يتصورن مجمع الآلهة والإلهات هذا فوق قمة جبل الأوليمبوس، وأن البشر يعيشون على الأرض التي تقع أسفل هذا الجبل. ويتصورون أن الألهة والإلهات يتسامرون ويتجادلون ويتنافسون وقد يختلفون ويتصارعون ثم يفصل بينهم زيوس فيوقف كل منهم عند حده ومن ثم يتوقف صراعهم الذي تصل الأرض بعض شظاياه.
هنا، تصور الشاعر اليوناني الأعمى هوميروس الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد على وجه التقريب ملحمته وصاغها صياغة شعرية جمعت بين جمال النص وروعة السرد وعمق المعنى ما منحها صفةالنص الأدبي الخالد، وللدرجة التي جادل الباحثون فيما إن كان كتبها فرد واحد أو أن يد الأدباء على مر العصور قد مرت عليها بالإضافة والتجويد والإتقان حتى استقرت على ما هي عليه.
المهم، أن هوميروس تصور حفلا صاخبا في بيت كبير الآلهة زيوس، تجتمع فيه كل الآلهة والإلهات، يأكلون ويشربون ويرقصون طوال الليل حتى الصباح، ويتصور أن الكل كان مدعوا للحفل ما عدا إلهة النكد والهم والغم والشقاق أريس، فحنقت لذلك حنقاً شديدا وقررت وهي بعيدة عنهم إفساد حفلهم بجعل الشقاق والخلاف يدب بينهم، تشفياً فيهم، وانتقاماً لعدم دعوتها، ففكرت وفكرت، ثم اهتدت إلى تلك الحيلة، ومن هنا يبدأ جوهر الصراع وذروة العقدة في الملحمة الهوميرية.
صنعت إلهة الشقاق والنكد تفاحة ذهبية وكتبت عليها كلمة للأجمل، ثم تسللت دون أن يشعر الجميع وألقتها بينهم وهم يتراقصون ثم انصرفت من حيث أتت.
فوجئت الإلهات بالتفاحة، وكن ثلاثة؛ أفروديت إلهة الحب والجمال، وأثينا إلهة العقل والحكمة، وهيرا إلهة الجاه والسلطان. فثار بينهن جدل وأي جدل، كل واحدة منهن تريد التفاحة لنفسها لتثبت للأخريات أنها الأجمل كما كُتب عليها، وحينما دب الشقاق بينهن احتكمن إلى كبير الآلهة زوج هيرا الإله زيوس، فاحتار في هذه الورطة، إنه لايريد أن يحكم بالتفاحة لإحداهن فيغضب الأخريات، فأجَّل الحكم لنهاية السهرة حتى لا يفسد الحفل، واستمروا في الأكل والشرب والرقص حتى قبيل الصبح ثم وقف يعلن حكمه الذي قضى فيه بأن ينزل إله الريح بالتفاحة ويلقها أمام أول واحد من البشر يصحو من نومه فكان هو باريس ابن ملك طرواده.
فتفاجئ باريس بالتفاحة، وقرأ ما عليها "للأجمل" وتفكر من ياترى هذه الأجمل، وتراءت إلى مخيلته أو ألقي في روعه أنها قد تكون أثينا إلهة الحكمة أو أفروديت إلهة الجمال أو هيرا إلهة الجاه، وبينا هو في صراعه الداخلي احتالت أفروديت لتفوز بالتفاحة، ودخلت إليه من باب الفتنة والغواية، كاشفة عن مفاتنها بعد أن تجسدت في صورة هيلينا زوجة ملك أسبرطة، موحية إليه أنها حبيبته وأنها بانتظاره، وأن ما عليه سوى التحجج بأي حجة لزيارة زوجها في قصره ثم الاختلاء بها والاتفاق معها على الهرب لينعم الحبيبان بحبهما، وأقنعته أنها ستبقي محبته في قلبها، وأن العدل يقتضي أن يفوز العشيقان ببعضهما. وقد حاولت أثينا إلهة العقل والحكمة إثنائه عن هذه المخاطرة، محذرة من عواقب خداع ملك وخطف زوجته تحت تأثير الحب والرغبة والشهوة والهيام، لكنه لم يستمع لنصحها، وسار وراء رغبته ونفذ خطته، وذهب إلى قصر ملك أسبرطة مدعيا أنه موفد من والده ملك طرواده لتقديم الشكر على حُسن التعاون بين المملكتين.
وصل باريس، ولقي الترحيب، وبينا هو جالس جاء لملك أسبرطة رسالة من أخيه ملك أجاممنون يطلب فيه مقابلته لأمر هام، فاستأذن موصياً باريس بأن يأخذ راحته وبأن يعتبر القصر قصره وأهله بمثابة أسرته، فخلى له الجو، وذهب يبحث عن هيلينا، زوجة الملك، وبثها عشقه وغرامه، وهرب الإثنان معاً، فكانت الفاجعة، وارتجت الممالك كلها بالصدمة، من هول ما جرى، واعتبر الجميع ما حدث غدر وخيانة، وانتهاك لحرمة ملك أسبرطة وأخيه ملك أجاممنون، وقرر الإثنان الانتقام لشرفهما، وشن الحرب على طرواده وضمها لمملكة أسبرطة.
وهنا تنتهي الألياذة لتبدأ الأوديسا التي تصور وقائع تلك الحرب ونتائجها.
هذه إذن هي الألياذة لهوميروس، وتلك هي قصتها.
والآن نعود لما بدأنا به: ما هو المغزى من الملحمة؟ ماذا يريد الشاعر أن يقول؟
هنا تختلف القراءات بحسب زاوية النظر، وبالنسبة لي فإني أراه قد حاول طرح موضوع الحرية التي أراد الله خلق الإنسان عليها؛ إنسان له حرية الاختيار بين طرق متعددة، لكل منها جاذبيته، وأن عليه أن يقرر ماذا يريد، ثم عليه تحمل نتيجة قراره وتبعات اختياره. هل يختار العقل والحكمة فيسمو ويتجنب المزالق، أم يختار الحب والجمال والمتعة والجنس والسير وراء رغباته ونزواته فيعب منها عباً غير عابئ بعد ذلك بالتبعات، أم تراه يميل نحو الجاه والمنصب والمال فيستعمل ذلك كله في الهيمنة وبسط النفوذ وفرض الإرادة.
في ظني، أن هوميروس أراد بملحمته طرح هذه الإشكالية الأزلية، وما يعزز هذا الظن أن مصدر هذه الحيرة الإنسانية كما سرد الشاعر هم الآلهة والإلهات أنفسهم والذين بحكم طبيعتهم وبقدراتهم أقوى من البشر، وتلكم في النهاية كانت مشيئة كبيرهم زيوس، رب الأرباب، صاحب فكرة إلقاء التفاحة المكتوب عليها "للأجمل" على الأرض وتصدير تلك المشكلة المحيرة إلى البشر.
عموما، ما من أسطورة إلا وفي طياتها فكرة، ولولا قابليتها للحياة ما عاشت، تثير الفكر وتلهب الخيال.
* للاستماع إلى الإلياذة بأصوات مجموعة من الممثلين البارعين الذين أدوها لصالح الإذاعة المصرية يمكنكم ذلك عبر الرابط أدناه.
https://youtu.be/MSWx8NMDbVw
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق