عصفور من الشرق – توفيق الحكيم
يعرض لنا الأديب توفيق الحكيم (1898 – 1987) في هذه الرواية التي كتبها في وقت مبكر (1938) وحينما كان عمره فقط أربعين عاما أزمة الإنسان في العصر الحديث سواء أكان يعيش في ظل الحضارة الشرقية أم الغربية، ويناقش ويحلل نقاط القوة ومكامن الضعف في كل منهما، ويتساءل: هل الإنسان في ظل الحضارة الغربية يعيش هانئ البال مرتاح الفؤاد أم أنه يلهث وراء اللذة الجسدية التي يظنها في المال ولا ينال منها غير القلق الوجودي والتشتت النفسي والجفاف الروحي؟
وما أسباب ذلك؟ هل لأنه عبد العلم واتخذه إلها وأعلن أن الله الحقيقي قد مات كما قال نيتشه؟ وهل العلم الذي يفاخر به قد حقق له المعرفة التي تخبره عن غاية الحياة وسبب الخلق ومصير الإنسان؟ أم أنها معرفة سطحية بمظاهر الطبيعة يشبه حظه منها حظ إنسان غمس إبرة في محيط وراح ينظر إلى ما يتساقط منها من قطر الماء.
ويستمر الحكيم – ذو الأربعين ربيعا – في تأمل أزمة الإنسان المعاصر فيوجه ناظريه شطر الحضارة الشرقية فيلهب ظهرها بسياط الأسئلة ونكزات التساؤلات فيقول في روايته عصفور من الشرق؛ من حضارة الشرق: هل ما يزال الشرق شرقا، محافظا على قيمه الأخلاقية ومعارجه الروحية ومعرفته بحكمة الخلق وسبب الوجود وطرائق تحصيل سعادة الدارين الدنيا والآخرة؟ أم أن صار شرقا مسخاً لا هوية له، فلا هو حافظ على مشرقيته المميزة ولا اكتسب من الغرب شيئا ينفعه، فأمسى كالأراجوز على المسرح وكالقرد في الغابة، وأصبح عالة على العالم في طعامه وشرابه وتعليمه وعلاجه؟ هل ما يزال الشرق يستفيد من جوهر الأديان التي نشأت في أرضه؟ وهل ما يزال يستقي الحكمة من نبع الحكماء الذين عاشوا فوق ترابه؟
يطرح الحكيم هذه الأسئلة الكبرى في سياق أدبي من خلال حديثه عن شاب ذهب إلى فرنسا ليدرس دراسات عليا يسمى محسن (يتحدث عن نفسه) ويعيش في غرفة مع إحدى العائلات الفرنسية التي تضيق بها سبل الرزق وتود أن يستمر هذا الشاب في العيش معها لتنتفع بإيجاره، ويصادق في هذه الأسرة شابا في مثل عمره يسمى أندريه، ثم يتعرف على فتاة تعمل بائعة لقطع التذاكر في أحد المسارح ويقع في غرامها وينتقل للعيش في الفندق الذي تسكن فيه، ويتعرف في الأثناء على إيفان العامل الروسي الماركسي الذي يشتغل في أحد المصانع ويبيت في نفس الحي الذي يقع فيه الفندق، ومن خلال هذه الأماكن: باريس وضواحيها، مسارحها، ومتاحفها، ومكتباتها، وقاعات عزف الموسيقى بها، ومن خلال هؤلاء الأشخاص: محبوبته سوزي وصديقيه أندريه وإيفان، ويحبك خيوط قصته، ويسلسل أحداثها، بطريقة آسرة مشوِّقة وبلغة عذبة متدفقة، ومن خلال ما برع فيه الحكيم من حوارات بين أشخاص روايته، تدور الأسئلة وتدور الأجوبة على تلكم الأسئلة الخاصة بمعنى السعادة والحب وماهية العلم والمعرفة التي يحتاجها الإنسان وبما جنته أوروبا اللعوب على والديها أفريقيا وآسيا من احتلال ونهب وإفقار عوضا عن أن تحفظ لها جميل السبق لمعرفة الله والحكمة من الوجود، وانتقاداته للتيارات الفكرية والسياسية السائدة آنذاك واتسامها بالنظرة الجزئية كالعلمانية والرأسمالية والاشتراكية وكالماركسية والفاشستية والإلحاد، وما جره الإنسان الأوروبي على نفسه والعالم من خراب بهذه الحرب العالمية (1914-1918) المجنونة التي راح ضحيتها ملايين البشر.
ويكشف محسن الذي هام بغرام فتاته سوزي أن لها عشيقا لم تخبره عنه من قبل فيخيب أمله وينقطع رجاؤه ويكتشف قبح النفعية التي تستغل مشاعر الآخر للحصول على لذتها المؤقتة.
ويتحدث إلى إيفيان، ذلك العامل الروسي المثقف العجوز الذي يعيش في باريس، ويتطارحان الفكر عن جنة الاشتراكية المزيفة واستغلال الديكتاتورية البشع للعاطفة الوطنية والقومية في تجييش الشعوب وراء مصالح الطغمة الحاكمة. ويعتقد إيفان الذي لم يزر الشرق أن الشرق ما زال على صورته التي يتخيلها؛ أرض الأنبياء ومنبع الحكمة ومستقر الروح وواحة الطمأنينة ومظلة راحة البال، وأنه المكان الذي يجب أن يهاجر للعيش فيه كل باحث عن السعادة الحقيقية وليست تلك الموجودة في الغرب والتي لها بريق لامع لكن قلبها جامد بارد.
ويصاب إيفان بالمرض ويعاوده محسن في مسكنه ويطلب منه أن يقربه من النافذة ليرى النور ويستشعر دفء الشمس ويقول له وهو يخرج أنفاسه الأخيرة خذني إلى الشرق لتنعم روحي بالراحة بعد طول عناء، ومحسن لا يريد أن يصارحه بالحقيقة وهو في آخر لحظات العمر ولا يود إخباره أن الشرق لم يعد شرق وأنه بات ألعوبة ومسخا مشوها وأصبح أرضا ترتع فيه أمراض الفقر والجهل والنفاق والشقاق وأن الإنسان الشرقي صار كالغربي في خواء الروح سواءً بسواء. لم يرد محسن أن يقول له ذلك وترك روحه ترجع إلى بارئها بسلام مع هذا الوهم وذلك الخدر الجميل.
وتنتهي رواية عصفور من الشرق ولا تنتهي، إذ تترك القارئ مع تلكم الأسئلة التي طرحها الحكيم وتركها تعصف في رؤوسنا عصف الريح ولا تجد حتى الآن جوابا.
محمد عبد العاطي
يعرض لنا الأديب توفيق الحكيم (1898 – 1987) في هذه الرواية التي كتبها في وقت مبكر (1938) وحينما كان عمره فقط أربعين عاما أزمة الإنسان في العصر الحديث سواء أكان يعيش في ظل الحضارة الشرقية أم الغربية، ويناقش ويحلل نقاط القوة ومكامن الضعف في كل منهما، ويتساءل: هل الإنسان في ظل الحضارة الغربية يعيش هانئ البال مرتاح الفؤاد أم أنه يلهث وراء اللذة الجسدية التي يظنها في المال ولا ينال منها غير القلق الوجودي والتشتت النفسي والجفاف الروحي؟
وما أسباب ذلك؟ هل لأنه عبد العلم واتخذه إلها وأعلن أن الله الحقيقي قد مات كما قال نيتشه؟ وهل العلم الذي يفاخر به قد حقق له المعرفة التي تخبره عن غاية الحياة وسبب الخلق ومصير الإنسان؟ أم أنها معرفة سطحية بمظاهر الطبيعة يشبه حظه منها حظ إنسان غمس إبرة في محيط وراح ينظر إلى ما يتساقط منها من قطر الماء.
ويستمر الحكيم – ذو الأربعين ربيعا – في تأمل أزمة الإنسان المعاصر فيوجه ناظريه شطر الحضارة الشرقية فيلهب ظهرها بسياط الأسئلة ونكزات التساؤلات فيقول في روايته عصفور من الشرق؛ من حضارة الشرق: هل ما يزال الشرق شرقا، محافظا على قيمه الأخلاقية ومعارجه الروحية ومعرفته بحكمة الخلق وسبب الوجود وطرائق تحصيل سعادة الدارين الدنيا والآخرة؟ أم أن صار شرقا مسخاً لا هوية له، فلا هو حافظ على مشرقيته المميزة ولا اكتسب من الغرب شيئا ينفعه، فأمسى كالأراجوز على المسرح وكالقرد في الغابة، وأصبح عالة على العالم في طعامه وشرابه وتعليمه وعلاجه؟ هل ما يزال الشرق يستفيد من جوهر الأديان التي نشأت في أرضه؟ وهل ما يزال يستقي الحكمة من نبع الحكماء الذين عاشوا فوق ترابه؟
يطرح الحكيم هذه الأسئلة الكبرى في سياق أدبي من خلال حديثه عن شاب ذهب إلى فرنسا ليدرس دراسات عليا يسمى محسن (يتحدث عن نفسه) ويعيش في غرفة مع إحدى العائلات الفرنسية التي تضيق بها سبل الرزق وتود أن يستمر هذا الشاب في العيش معها لتنتفع بإيجاره، ويصادق في هذه الأسرة شابا في مثل عمره يسمى أندريه، ثم يتعرف على فتاة تعمل بائعة لقطع التذاكر في أحد المسارح ويقع في غرامها وينتقل للعيش في الفندق الذي تسكن فيه، ويتعرف في الأثناء على إيفان العامل الروسي الماركسي الذي يشتغل في أحد المصانع ويبيت في نفس الحي الذي يقع فيه الفندق، ومن خلال هذه الأماكن: باريس وضواحيها، مسارحها، ومتاحفها، ومكتباتها، وقاعات عزف الموسيقى بها، ومن خلال هؤلاء الأشخاص: محبوبته سوزي وصديقيه أندريه وإيفان، ويحبك خيوط قصته، ويسلسل أحداثها، بطريقة آسرة مشوِّقة وبلغة عذبة متدفقة، ومن خلال ما برع فيه الحكيم من حوارات بين أشخاص روايته، تدور الأسئلة وتدور الأجوبة على تلكم الأسئلة الخاصة بمعنى السعادة والحب وماهية العلم والمعرفة التي يحتاجها الإنسان وبما جنته أوروبا اللعوب على والديها أفريقيا وآسيا من احتلال ونهب وإفقار عوضا عن أن تحفظ لها جميل السبق لمعرفة الله والحكمة من الوجود، وانتقاداته للتيارات الفكرية والسياسية السائدة آنذاك واتسامها بالنظرة الجزئية كالعلمانية والرأسمالية والاشتراكية وكالماركسية والفاشستية والإلحاد، وما جره الإنسان الأوروبي على نفسه والعالم من خراب بهذه الحرب العالمية (1914-1918) المجنونة التي راح ضحيتها ملايين البشر.
ويكشف محسن الذي هام بغرام فتاته سوزي أن لها عشيقا لم تخبره عنه من قبل فيخيب أمله وينقطع رجاؤه ويكتشف قبح النفعية التي تستغل مشاعر الآخر للحصول على لذتها المؤقتة.
ويتحدث إلى إيفيان، ذلك العامل الروسي المثقف العجوز الذي يعيش في باريس، ويتطارحان الفكر عن جنة الاشتراكية المزيفة واستغلال الديكتاتورية البشع للعاطفة الوطنية والقومية في تجييش الشعوب وراء مصالح الطغمة الحاكمة. ويعتقد إيفان الذي لم يزر الشرق أن الشرق ما زال على صورته التي يتخيلها؛ أرض الأنبياء ومنبع الحكمة ومستقر الروح وواحة الطمأنينة ومظلة راحة البال، وأنه المكان الذي يجب أن يهاجر للعيش فيه كل باحث عن السعادة الحقيقية وليست تلك الموجودة في الغرب والتي لها بريق لامع لكن قلبها جامد بارد.
ويصاب إيفان بالمرض ويعاوده محسن في مسكنه ويطلب منه أن يقربه من النافذة ليرى النور ويستشعر دفء الشمس ويقول له وهو يخرج أنفاسه الأخيرة خذني إلى الشرق لتنعم روحي بالراحة بعد طول عناء، ومحسن لا يريد أن يصارحه بالحقيقة وهو في آخر لحظات العمر ولا يود إخباره أن الشرق لم يعد شرق وأنه بات ألعوبة ومسخا مشوها وأصبح أرضا ترتع فيه أمراض الفقر والجهل والنفاق والشقاق وأن الإنسان الشرقي صار كالغربي في خواء الروح سواءً بسواء. لم يرد محسن أن يقول له ذلك وترك روحه ترجع إلى بارئها بسلام مع هذا الوهم وذلك الخدر الجميل.
وتنتهي رواية عصفور من الشرق ولا تنتهي، إذ تترك القارئ مع تلكم الأسئلة التي طرحها الحكيم وتركها تعصف في رؤوسنا عصف الريح ولا تجد حتى الآن جوابا.
محمد عبد العاطي
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق